انقضت ساعتان على وقوف عمر في الصف أمام باب «المفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللّاجئين». يدوّر الشاب في يده بطاقته الصفراء التي كتب عليها رقمه، لا اسمه. هو «70 ــ أصفر». بينما ينتظر ابن السابعة عشرة دوره مع ابن عمّه، ينادي الصوت خلف بوابة المفوضيّة «61 ــ أزرق»، ثم أسود. ما زال هناك بعض الوقت ليحين دوره، فهو «سبعون ــ أصفر». أمام البوابة التي يحتشد من حولها اللّاجئون السوريّون بالدرجة الأولى، ثم بدرجة أقلّ العراقيون والسودانيون، تشعر بوطأة الحرب هنا. وكأنّ الناس يحتشدون وينتظرون أن تمتد يد من فجوة البوابة لتعطيهم خبزهم.

لكن الأمر لا يحدث. ولو أنّ المنظر هو ذاته، إلا أنّ الصوت الذي ينادي الآن الرقم 69، يذكّرك بأنّهم أمام المفوضيّة. يتندّر أحد «طالبي اللّجوء» من السوريين، ليخفّف من حدّة الأمر على صديقه، الذي يطبق جفناه أمام مدّ الدموع الذي يصارع ليخرج من تحتهما: «يا أخي، ولا يهمّك. احسبنا في مسرحية «غربة» لدريد لحّام» ويضحك. تحتار إن كان الأمر مضحكاً، أو أنّ عليك الإشاحة بوجهك لتسمح للرجل الخمسيني بأن يحرّر دموعه بعد «نكتة» صديقه.
وقوف السوريّين أمام بوابة المفوضيّة يعني تحوّلهم من «نازحين» سيعودون إلى ديارهم قريباً، إلى لاجئين وطالبي هجرة فقدوا الأمل بالعودة. «طالت الأزمة، ولا نرى أفقاً قريباً للحلّ»، يقول اللّاجئون الجدد. بالنسبة إليهم، طلب اللّجوء إلى أوروبا، أو أوستراليا التي يفضّلها معظمهم، هو من أجل الأطفال بالدرجة الأولى ولتوفير مستقبل جيد لهم، بما أنّ الحياة باهظة في لبنان، وبالكاد يمكنهم إدخال أولادهم إلى المدرسة. فتيسير، مثلاً، الذي خرج من حلب مع أولاده الخمسة وزوجته، تحوّل من مالك لمصنع سجّاد في بلاده إلى ناطور في منطقة جلّ الديب. اثنان من أولاده يتابعون دراستهم السنة، في مدرسة بياقوت الرسميّة، بينما الكبيران، وعمرهما 15 و16 سنة، سيحرمان الدراسة؛ إذ إنّ الخيار كان بين إطعامهم أو المدرسة، فاختاروا أن يأكلوا. يلتفت تيسير إلى صديقه إلى جانبه، ويقول: «في حلب كنت أعيش في العزّ في بيتي المؤلّف من طبقتين. لكن هذا هو الحال الآن، وبعد بلادي ما في». فراس الذي فرّ مع عائلته من حماه بعدما لم يبق فيها سوى التراب، وآثار غبار المعارك، يعجز عن تعليم ولديه. في المنية حيث يقيم الآن، طلبت منه إحدى المدارس الدينيّة مبلغ 500$ على حدّ قوله لتعليم كلّ ولد من أولاده. لكنه عاد وسجّل ابنه في مدرسة تعتمد المنهج السوري للتدريس، «المدرسة سيئة، لكنها مجانيّة» بحسب قوله. مع ذلك فاضت تلك المدرسة بأعداد الطلاب ولم تعد تتسع لمقعد لابنته، التي ستبقى السنة من دون تعليم.
أحد اللّاجئين يحتل مع عائلته رصيفاً كاملاً. هو وزوجته وأمّه وأولاده، وعمّ زوجته وأولاده، وشقيقته هنا. ليسوا مهتمين بمعرفة ماهية المساعدات الصحيّة أو الغذائيّة التي يقدّمها مكتب المفوضيّة، ولو أنّ أوضاعهم صعبة؛ إذ إنّهم يقولون إنّهم جاؤوا بهدف الهجرة لا غير. «فشاشات التلفاز تنقل لكم فقط 5 بالمئة ممّا يحدث في حلب والأوضاع لن تهدأ في ليلة وضحاها، وفي لبنان لا أشغال ولا كهرباء أو ماء. سنحاول من خلال المفوضيّة أن نصل إلى أخي في أوستراليا»، يقول الأخ الأكبر. ناصر الفارّ من حلب أيضاً مع جيلين من عائلته يريد الوصول إلى الغرب. لا يهم إلى أيّ بلد، ما يهمّ فقط هو المغادرة. «غطّينا مساحات كبيرة من لبنان وأصبحنا كثراً، إلى درجة أنّه ما عاد اللّبنانيّون يتحمّلوننا. من هنا أيضاً ازداد تحكّمهم بنا في العمل، حتى إنّ بعضهم ما عاد يدفع أجرتنا». الأوضاع المعيشيّة في لبنان ليست وحدها السبب خلف وقوف السوريين على أبواب المفوضيّة، بل إنّهم في لبنان لا يشعرون بأنّهم خارج الأزمة تماماً. فالكلّ يريد أن يعرف هنا إلى أيّ جهة ينتمون، ويكون التعامل معهم على هذا الأساس. يقول أحمد: «يريدون أن يعرفوا دوماً إلى أيّ جهة أنتمي. أنا فقط إنسان مهزوم، ولو أتيحت لي الفرصة لأؤمّن جوازات سفر لأولادي وزوجتي قبل أن أترك بلدي، لاصطحبتهم من هناك إلى قطر حيث كنت أعمل».
على الرصيف يدور أحد اللّاجئين على الباقين بعفويّة ونشاط، ويمازح أفراد عائلته خاصة بالقول: «أنت وضعك مو عاجبني، أنت مش مطوّل هنا» أو «مطلوب، أنت مطلوب» فيدور عراك ودّي بالأيدي ويضحكون. لكن المزحة ما كانت لتكون وديّة ربما مع ابن عمّ عمر؛ إذ إنّه مطلوب فعلاً. مطلوب للخدمة العسكريّة. لكن الشاب الذي يرفض التصريح عن اسمه لن يلبّي نداء الخدمة، «بسبب أوضاع البلد الصعبة» كما يقول، بل يتمنى الآن لو تطلبه الولايات المتحدة الأميركية مع عائلته إلى حياة جديدة. عمر وابن عمّه لا يحبّان باراك أوباما، لكنهما في المقابل يحبّان بلاد أوباما. تتحوّل «أميركا» على لسان عمر إلى كلمة جديدة. وكأنّه يكتشف الأمل فيها.
بينما كانت بعض العائلات حاضرة بجميع أفرادها، كأنّها خائفة أن يأتي قرار الهجرة في لحظتها ويخلّفون أحدهم وراءهم في البلد هنا، انتدبت عائلات أخرى ممثلاً عنها إلى المفوضيّة. عائلة عمر انتدبته و«ابن العمّ»، ليحملوا آمالهم بالهجرة إلى أميركا. وبينما يعرب جميع اللّاجئين عن ضرورة عودتهم إلى سوريا بعد انتهاء الأزمة القائمة، يقول عمر إنّه يرى بلاده تتحوّل إلى عراق آخر بعد سكوت أصوات المدافع. تفجيرات تصطاد الناس في الطرقات. يضيف ابن عمّه قائلاً إنّه سيعود إلى سوريا عندما تعود البلاد إلى ما كانت عليه. يصحّح عمر: «لن نعود إذا عادت سوريا إلى ما كانت عليه، بل عندما تصبح أفضل ممّا كانت عليه». هذا هو التصريح الأخير لعمر، يعبّر ضمنياً فيه عن سياسة حاول ابن عمّه تفاديها طول الطريق. يختم الشاب جملته الأخيرة ويقول إنّ اسمه عمر. «عمر» قد لا يكون اسمه الحقيقي، لكنه رمز يعبّر عن سوريا الجديدة المتمثّلة أيضاً أمام المفوضيّة. فسهيل يعرّف عن نفسه، من دون أن نسأله حتى، بكونه «شيوعياً، مسيحياً أرثوذكسياً»! لا داعي إلى الاستغراب يقول، هو فقط يضيف هذا التفصيل حتى «لا يعتقد الناس أنّ الواقفين على أبواب المفوضيّة هم من لون واحد. لكن في النهاية، نحن الجميع يحبّنا. المشكلة هي بين العلويّين والسنّة».
مع النظام أو ضدّ النظام؟ يلاحقهم السؤال، لكنهم يقولون إنّ الوجع واحد. اليوم تقول المفوضيّة العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إنّ 94 ألف لاجئ يتلقّون المساعدة عبرها و64 ألفاً مسجّلون لديها. هؤلاء طبعاً، تسجّلوا لإعادة التوطين، آملين أن لا يشاركوا اللّاجئين العراقيين والسودانيين سنوات الانتظار الطويلة، ولو أنّ الأولويّة باتت لهم في المفوضيّة اليوم.